فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{من} الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها، والثانية لابتداء الغاية.
ويتعلق {وَمِن ثمرات النخيل والأعناب} بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما وحذف لدلالة {نسقيكم} قبله عليه وقوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} بيان وكشف عن كنه الإسقاء، أو تتخذون ومنه من تكرير الظرف للتوكيد، والضمير في {منه} يرجع إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير، والسكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرًا وسكرًا نحو رشد رشدًا ورشدًا.
ثم فيه وجهان: أحدهما أن الآية سابقة على تحريم الخمر فتكون منسوخة، وثانيهما أن يجمع بين العتاب والمنة.
وقيل: السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلى حد السكر، ويحتجان بهذه الآية وبقوله عليه السلام: «الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب» وبأخبار جمة {وَرِزْقًا حَسَنًا} هو الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك {إِنَّ في ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} وألهم {أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا} هي {أن} المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول.
قال الزجاج: واحد النحل نحلة كنخل ونخلة والتأنيث باعتبار هذا، و{من} في {من الجبال} {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} يرفعون من سقوف البيت أو ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تعسل فيها للتبعيض لأنها لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش والضمير في {يعرشون} للناس، وبضم الراء: شامي وأبو بكر.
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات} أي ابني البيوت ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها {فاسلكى سُبُلَ رَبِّكِ} فادخلي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها {ذُلُلًا} جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله تعالى ذللها وسهلها، أو من الضمير في {فاسلكي} أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ} يريد العسل لأنه مما يشرب تلقيه من فيها {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} منه أبيض وأصفر وأحمر من الشباب والكهول والشيب أو على ألوان أغذيتها {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ} لأنه من جملة الأدوية النافعة، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل.
وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض كما أن كل دواء كذلك، وتنكيره لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء لأن النكرة في الإثبات تخص، وشكا رجل استطلاق بطن أخيه فقال عليه السلام: «اسقه عسلًا» فجاءه وقال: زاده شرًا فقال عليه السلام: «صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلًا فسقاه فصح».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين: القرآن والعسل ومن بدع الروافض أن المراد بالنحل عليّ وقومه.
وعن بعضهم أن رجلًا قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم.
فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي، وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم {إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في عجيب أمرها فيعلمون أن الله أودعها علمًا بذلك وفطنها كما أعطى أولي العقول عقولهم.
{والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يتوفاكم} بقبض أرواحكم من أبدانكم {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة أو ثمانون أو تسعون {لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} لينسى ما يعلم أو لئلا يعلم زيادة علم على علمه {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل أو إلى الإفناء من الإحياء {قَدِيرٌ} على تبديل ما يشاء كما يشاء من الأشياء {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ في الرزق} أي جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم {فَمَا الذين فُضِّلُواْ} في الرزق يعني الملاك {بِرَآدِّي} بمعطي {رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم} فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم {فَهُمْ فِيهِ سَوَاء} جملة اسمية وقعت في موضع جملة فعلية في موضع النصب لأنه جواب النفي بالفاء وتقديره: فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا مع عبيدهم في الرزق، وهو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء فقال لهم: أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟ {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} وبالتاء: أبو بكر، فجعل ذلك من جملة جحود النعمة.
{والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي من جنسكم {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً} جمع حافد وهو الذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة ومنه قول القانت: «وإليك نسعى ونحفد» واختلف فيه فقيل: هم الأختان على البنات وقيل: أولاد الأولاد.
والمعنى وجعل لكم حفدة أي خدمًا يحفدون في مصالحكم ويعينونكم {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات} أي بعضها لأن كل الطيبات في الجنة وطيبات الدنيا أنموذج منها {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} هو ما يعتقدونه من منفعة الأصنام وشفاعتها {وَبِنعْمَتِ اللهِ} أي الإسلام {هُمْ يَكْفُرُونَ} أو الباطل الشيطان والنعمة محمد صلى الله عليه وسلم أو الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله ما أحل لهم {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السماوات والأرض شَيْئًا} أي الصنم وهو جماد لا يملك أن يرزق شيئًا، فالرزق يكون بمعنى المصدر وبمعنى ما يرزق، فإن أردت المصدر نصبت به {شيئًا} أي لا يملك أن يرزق شيئًا، وإن أردت المرزوق كان {شيئا} ً بدلًا منه أي قليلًا، و{من السماوات والأرض} صلة للرزق إن كان مصدرًا أي لا يرزق من السماوات مطرًا ولا من الأرض نباتًا، وصفة إن كان اسمًا لما يرزق، والضمير في {ولاَ يَسْتَطِيعُونَ} لما لأنه في معنى الآلهة بعدما قال لا يملك على اللفظ، والمعنى لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه ولا يتأتى ذلك منهم {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} فلا تجعلوا لله مثلًا فإنه لا مثل له أي فلا تجعلوا له شركاء {إِنَّ الله يَعْلَمُ} أنه لا مثل له من الخلق {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك أو إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك والوجه الأول. اهـ.

.قال البيضاوي:

{وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين}.
ذكر العدد مع أن المعدود يدل عليه دلالة على أن مساق النهي إليه، أو إيماء بأن الاثنينية تنافي الألوهية كما ذكر الواحد في قوله: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية دون الإِلهية، أو للتنبيه على أن الوحدة من لوازم الإِلهية. {فإياي فارهبون} نقل من الغيبة إلى التكلم مبالغة في الترهيب وتصريحًا بالمقصود فكأنه قال: فأنا ذلك الإِله الواحد فإياي فارهبون لا غير.
{وَلَهُ مَا فِي السموات والأرض} خلقًا وملكًا. {وَلَهُ الدين} أي الطاعة. {وَاصِبًا} لازمًا لما تقرر من أنه الإله وحده والحقيق بأن يرهب منه، وقيل {وَاصِبًا} من الوصب أي وله الدين ذا كلفة، وقيل الدين الجزاء أي وله الجزاء دائمًا لا ينقطع ثوابه لمن آمن وعقابه لمن كفر. {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} ولا ضار سواه كما لا نافع غيره كما قال تعالى.
{وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله} أي وأي شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله، {وَمَا} شرطية أو موصولة متضمنة معنى الشرط باعتبار الإِخبار دون الحصول، فإن استقرار النعمة بهم يكون سببًا للإِخبار بأنها من الله لا لحصولها منه. {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} فما تتضرعون إلا إليه، والجؤار رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم} وهم كفاركم. {بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} بعبادة غيره، هذا إذا كان الخطاب عامًا، فإن كان خاصًا بالمشركين كان من للبيان كأنه قال: إذا فريق وهم أنتم، ويجوز أن تكون من للتبعيض على أن يعتبر بعضهم كقوله تعالى: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} {لِيَكْفُرُواْ بِمَا ءاتيناهم} من نعمة الكشف عنهم كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة، أو إنكار كونها من الله تعالى. {فَتَمَتَّعُواْ} أمر تهديد. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أغلظ وعيده، وقرئ {فيمتعوا} مبنيًا للمفعول عطفًا على {لِيَكْفُرُواْ}، وعلى هذا جاز أن تكون اللام لام الأمر الوارد للتهديد والفاء للجواب.
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد فيكون الضمير {لِمَا}، أو التي لا يعلمونها فيعتقدون فيها جهالات مثل أنها تنفعهم وتشفع لهم على أن العائد إلى ما محذوف، أو لجهلهم على أن ما مصدرية والمجعول له محذوف للعلم به. {نَصِيبًا مّمّا رزقناهم} من الزروع والأنعام. {تالله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} من أنها آلهة حقيقة بالتقرب إليها وهو وعيد لهم عليه.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله. {سبحانه} تنزيه له من قولهم، أو تعجب منه. {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} يعني البنين، ويجوز فيما يشتهون الرفع بالابتداء والنصب بالعطف على البنات على أن الجعل بمعنى الاختيار، وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف.
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى} أخبر بولادتها. {ظَلَّ وَجْهُهُ} صار أو دام النهار كله. {مُسْوَدّا} من الكآبة والحياء من الناس، واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشوير. {وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوء غيظًا من المرأة.
{يتوارى مِنَ القوم} يستخفى منهم. {مِن سُوء مَا بُشِّرَ بِهِ}. من سوء المبشر به عرفًا. {أَيُمْسِكُهُ} محدثًا نفسه متفكرًا في أن يتركه. {على هُونٍ} ذل {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} أي يخفيه فيه ويئده، وتذكير الضمير للفظ {مَا} وقرئ بالتأنيث فيهما. {أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محله عندهم.
{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء} صفة السوء وهي الحاجة إلى الولد المنادية بالموت واستبقاء الذكور استظهارًا بهم وكراهة الإِناث ووأدهن خشية الإِملاق.
{وَلِلَّهِ المثل الأعلى} وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الفائق والنزاهة عن صفات المخلوقين. {وَهُوَ العزيز الحكيم} المنفرد بكمال القدرة والحكمة.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} بكفرهم ومعاصيهم. {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} على الأرض، وإنما أضمرها من غير ذكر للدلالة الناس والدابة عليها. {مِن دَابَّةٍ} قط بشؤم ظلمهم، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كاد الجعل يهلك في حجره بذنب ابن آدم أو من دابة ظالمة، وقيل لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء. {ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} سماه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا. {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} بل هلكوا أو عذبوا حينئذ لا محالة، ولا يلزم من عموم الناس وإضافة الظلم إليهم أن يكونوا كلهم ظالمين حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم وصدر عن أكثرهم.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء في الرياسة، والاستخفاف بالرسل وأراذل الأموال. {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} مع ذلك وهو. {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} أي عند الله كقوله: {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} وقرئ {الكذب} جمع كذوب صفة للألسنة. {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} رد لكلامهم وإثبات لضده. {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} مقدمون إلى النار من أفرطته في طلب الماء إذا قدمته، وقرأ نافع بكسر الراء على أنه من الإِفراط في المعاصي، وقرئ بالتشديد مفتوحًا من فرطته في طلب الماء ومكسورًا من التفريط في الطاعات.
{تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ} فأصروا على قبائحها وكفروا بالمرسلين. {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} أي في الدنيا، وعبر باليوم عن زمانها أو فهو وليهم حين كان يزين لهم، أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية، ويجوز أن يكون الضمير لقريش أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم وهو ولي هؤلاء اليوم يغريهم ويغويهم، وإن يقدر مضاف أي فهو ولي أمثالهم، والولي القرين أو الناصر فيكون نفيًا للناصر لهم على أبلغ الوجوه. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في القيامة.
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ} للناس. {الذي اختلفوا فِيهِ} من التوحيد والقدر وأحوال المعاد وأحكام الأفعال. {وَهُدَىً وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} معطوفان على محل لتبين فإنهما فعلا المنزل بخلاف التبيين.
{والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها. {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر وإنصاف.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم. {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهِ} استئناف لبيان العبرة، وإنما ذكر الضمير ووحده ها هنا للفظ وأنثه في سورة المؤمنين للمعنى، فإن {الأنعام} اسم جمع ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأكياس، ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها أو لواحده أو له على المعنى، فإن المراد به الجنس.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب {نُّسْقِيكُمْ} بالفتح هنا وفي المؤمنين. {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا} فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهو الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف في كرشها كان أسفله فرثًا وأوسطه لبنًا وأعلاه دمًا، ولعله إن صح فالمراد أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن، لأنهما لا يتكونان في الكرش بل الكبد يجذب صفارة الطعام المنهضم في الكرش، ويبقي ثفله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها هضمًا ثانيًا فيحدث أخلاطًا أربعة معها مائية، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال، ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها فيجري إلى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم، ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها، فيندفع الزائد أولًا إلى الرحم لأجل الجنين فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض فيصير لبنًا، ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به، اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته، و{مِنْ} الأولى تبعيضية لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية ابتدائية كقولك: سقيت من الحوض، لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإِسقاء وهي متعلقة ب {نُّسْقِيكُمْ} أو حال من {لَّبَنًا} قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة. {خَالِصًا} صافيًا لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث، أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه. {سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} سهل المرور في حلقهم، وقرئ {سِّيغًا} بالتشديد والتخفيف.
{وَمِن ثمرات النخيل والأعناب} متعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما، وقوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} استئناف لبيان الإِسقاء أو ب {تَتَّخِذُونَ}، ومنه تكرير للظرف تأكيدًا أو خبر لمحذوف صفته {تَتَّخِذُونَ}، أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه، وتذكير الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوف الذي هو العصير، أو لأن ال {ثمرات} بمعنى الثمر وال {سكر} مصدر سمي به الخمر. {وَرِزْقًا حَسَنًا} كالتمر والزبيب والدبس والخل، والآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة، وقيل ال {سكر} النبيذ وقيل الطعم قال:
جَعَلْتُ أَعْرَاضَ الكِرَامِ سُكْرًا